اعتراض الغير وإعادة المحاكمة والانعدام
|
اعتراض الغير وإعادة المحاكمة والانعدام |
حطّت الدعوى رحالها أمام محكمة البداية المدنية 13 بدمشق برئاسة الأستاذ "محمد عطفة" المحترم، وبعد الشروع بالمحاكمة وحضور المدعى عليهما وتبادل الدفوع، كان من المستغرب فعلاً تجاهل المدعى عليهما لهذا الجمع بين اعتراض الغير، وإعادة المحاكمة بدعوى واحدة، ولم يثيرا أي دفع يتعلق به!!
دفعت الشارية (غادة) الدعوى بحسن نيتها الثابت بالقضية، وطلبت الاستئخار لوجود دعوى جزائية، وغير ذلك من دفوع شكلية.
كما وقعت بمطب التشكيك بالمحكمة حينما قالت: أنها لا تدري مغزى اختيار محكمة البداية المدنية الـ 13 بالذات لنظر الدعوى، مع العلم أن هناك دعاوى أخرى قيدت بمحاكم غيرها، وأنها أوضحت هذه المغالطة مما يوجب على المحكمة ألا تنظر الدعوى!
بصراحة لا يخلو هذا الدفع من مقامرة، إذ أن الغاية منه استفزاز المحكمة ودفعها للتنحي عن نظر الدعوى لما ينطوي عليه من تشكيك بنزاهتها، وفي الواقع قد يفلح مثل هذا الأسلوب لأن القاضي الذي ليس له مصلحة بالدعوى قد يجنح للتنحي عن رؤيتها حتى ينأى بنفسه عن إثارة اللغط، ولكنه إذا صادف قاض من النوع الجريء الواثق من نفسه، فلا يجدي معه هذا الأسلوب، وقد يترك في نفسه أثراً سلبياً قد يكون له تأثير عندما يقوم بوزن أدلة الطرفين، وبالتالي نرى أنه ليس من الحكمة إثارة مثل هذه الدفوع كتابة، والاستعاضة عنها بمراجعة القاضي شخصياً، والتحدث معه شفهياً بشكل صريح إن اقتضى الأمر ذلك، وكان هناك لدى أحد الأطراف شكوك معينة.
بالنتيجة لم يتنح الأستاذ "عطفة" عن الدعوى، وردَّ بكل اقتدار على هذا الدفع قائلاً: إنه محاولة لكسب الوقت والمماطلة فيها، إذ أن اختيار محكمة أخرى يستغرق وقتاً، وقد يتم اللجوء لذات الأسلوب أمام المحكمة الأخرى كسباً للوقت، ونظراً لكون هذه الدعوى كغيرها من الدعاوى فلا يوجد أي مبرر للتنحي عن رؤيتها.
أما بالنسبة لحسن النية الذي دفعت به الشارية، فقد خلص الأستاذ عطفة لنتيجة مفادها:
((أن حسن النية لا يعني حرمان المالك الحقيقي من ملكه ولا سيما أنه قد ثبت بيع ملكه بدون علمه، من خلال تزوير توقيعه على محضر جلسة الإقرار بنقل الملكية، كما أن حسن النية لا يحمي من آثار القرار المعدوم الصادر بالدعوى الأولى)).
ورَفَضَ استئخار هذه الدعوى لحين البت بالدعوى الجزائية، بسبب عدم وحدة الأطراف بين الدعويين.
أما بالنسبة للطلب العارض الذي تقدم به الأستاذ "قبلان" لإعلان انعدام القرارين موضوع الدعوى، فاعتبره الأستاذ "عطفة" تحصيل حاصل، وتكرار لنفس الطلب موضوع الدعوى ويرمي لنفس الهدف، مما يتعين رده لأنه لكل حق دعوى واحدة تحميه.
وبناء عليه قَبِلَ الدعوى، وقرر إبطال القرارات التي سلبت ملكية المدعي تزويراً.
ولم يتطرق الأستاذ عطفة لموضوع الجمع بين اعتراض الغير، وإعادة المحاكمة مطلقاً، ما يدل أنه استساغ ذلك ولم ير فيه أية غضاضة أو مخالفة للقانون.
استؤنف القرار البدائي من قبل جميع الأطراف، المدعى عليهم يطلبون فسخه وردّ الدعوى، والمدعي يطلب تعويضه،
ويرافقنا الاستغراب أيضاً للمرحلة الاستئنافية، بتجاهل المدعى عليهما لمسألة الجمع بين الاعتراض والإعادة بدعوى واحدة، وعدم إثارتها في لائحة الاستئناف، وبصراحة يعتبر هذا التجاهل ضعف واضح في إبداء الدفوع بدون شك!
قررت محكمة الاستئناف استئخار النظر بالدعوى لحين البت بالدعوى الجزائية.
بتاريخ 20 آب 2014، أصدرت محكمة الجنايات الثالثة بدمشق القرار 293 الذي قضى من حيث النتيجة:
تسليم المنزل للمالك "أمجد" كشخص ثالث مؤتمن عليها، ريثما يبت القضاء المدني بالنزاع.
فك احتباس مبلغ 12 مليون ليرة المحتجزين بالمصرف وتسليمهم للشارية "غادة" كشخص ثالث مؤتمن عليهم لحين البت بالنزاع من القضاء المدني.
بعد الدغم وتوابعه صدر الحكم بحبس زهير مدة سنة ونصف!!
إلزامه بدفع تعويض 2 مليون ليرة للمالك أمجد.
إلزامه بإعادة مبلغ الـ 42 مليون ليرة الذي استلمه ثمناً للشقة للشارية غادة، مع الفائدة القانونية بمقدار 5%.
تركت محكمة الجنايات للقضاء المدني أمر البت نهائياً بباقي المسائل المرتبطة بالموضوع مثل الملكية، والأحكام الصادرة حول المنزل وغيرها.
في الواقع لا يمكن تجاهل الأثر الحاسم لما قررته محكمة الجنايات على الدعوى المدنية، فقد أعطت مؤشر واضح بأحقية المالك أمجد بمنزل، وبأن الشارية غادة حقها محصور بالتعويض.
وبالرغم من أن حكم محكمة الجنايات هذا لا يلزم المحكمة المدنية، ولكنه بدون شك سيريح القاضي المدني في حال جنح في قضائه لإعادة الحال لما كانت عليه قبل التزوير.
بالفعل بعد انبرام الحكم الجزائي جُددت الدعوى المدنية المستأخرة، فنظرتها الغرفة الثالثة في محكمة الاستئناف بدمشق، وهي الغرفة المتميزة برئاسة الأستاذة الحصيفة "أمينة حاج بارة"، وهي من الرؤساء الذين يحسنون قيادة محكمتهم، ويحكمون السيطرة على القضايا المسجلة فيها، ناهيك عن العلم والنزاهة والاحترام، وعضوية الأستاذتين المحترمتين "رولا سباهي شعيب وهانيا البابا".
من الواضح أنه ثار خلاف بين مستشاري المحكمة أثناء المداولة، حول جواز الجمع بين إعادة المحاكمة واعتراض الغير بدعوى واحدة، فقد انفردت المستشار الأستاذة "هانيا البابا" برأي مفاده عدم جواز هذا الجمع، وأنه يجب على المحكمة إثارة ذلك من تلقاء نفسها، حتى لو لم يثره الخصوم، كونه من متعلقات النظام العام من وجهة نظرها،
ولكن الأستاذتان أمينة ورولا خالفاها الرأي ولم تريا مانعاً من ذلك، الأمر الذي أدى لصدور القرار بالأكثرية التي قالت أنه:
((بغض النظر عن إمكانية الجمع بين دعوى إعادة المحاكمة واعتراض الغير بدعوى واحدة، فإن موضوع كل منهما إبطال الحكمين المذكورين...))
وفي الواقع نحن نعرف بحكم الممارسة أنه عندما يستعمل القاضي في مفرداته وقت تسبيب الحكم عبارة "بغض النظر عن...." فهذا يعني أنه لا يريد الانزلاق لمناقشة قانونية حول ناحية أصولية ما أثارها الخصوم، لأن سطوع الحق الذي ظهر له في الدعوى، ومقتضيات العدالة التي تسوغ له الحكم بما اقتنع به، أكثر أهمية عنده من الدخول بجدال قد يكون سفسطائي.
وبالرغم من ذلك فقد ألمحت أكثرية المحكمة أنه يسوغ هذا الجمع بالنظر لوحدة الهدف وهو إلغاء القرارات موضوع الدعوى، وهو ما يتقاطع مع الطلب العارض بإعلان الانعدام، الذي يصب بنفس اتجاه موضوع الدعوى الأصلي مع تغيير في الأساس في الأساس الذي بنيت عليه الدعوى، وهو أمر جائز قانوناً.
وتطرقت أكثرية الهيئة بالتفصيل لما استقر عليه الفقه والاجتهاد من مبادئ أساسية في تقرير الانعدام، وولجت منه لما ثبت لدى محكمة الجنايات من تزوير مؤكد بالبطاقة الشخصية التي استخدمت في انتحال شخصية المالك أمجد سواء عند الإقرار القضائي بالبيع أو بتنظيم الوكالة للمحامي، مما يؤكد الخصومة لم تنعقد في الدعوى الإقرارية التي صدر عنها القرار بنقل ملكية البيع للمزور سعدي، مما يحقق إحدى حالات الانعدام المدرسية التي استقر علها الاجتهاد, وينبغي بالتالي إعلان انعدام الحكم موضوع طلب إعادة المحاكمة، وبما أن الحكم التالي موضوع طلب اعتراض الغير قد بني على حكم معدوم، فقد خلصت أكثرية الهيئة الموقرة إلى مبدأ قانوني مفاده:
((ما بني على معدوم فهو معدوم، والحكم القضائي الذي يستند على حكم معدوم لا يرتب أي أثر ولا يؤخذ في هذه الحالة بحسن النيّة))
متكئة في ذلك على اجتهاد الهيئة العامة رقم 13- أساس 899 تا 11/2/2008،
وردت أكثرية الهيئة على دفوع الأطراف معتبرة أن الحكمين القضائيين موضوع الدعوى معدومين، وبالتالي لا يترتب عليهما أي أثر، ولا ينقلبان صحيحين مهما أثير حولهما من دفوع، بحسبان أن للحكم بالانعدام أثر كاشف وليس منشئ. وبالتالي لا يمكن نقل ملكية المنزل للشارية حسنة النية غادة بناء على حكم نشأ بالأصل معدوماً، كونه استند في صدوره على حكم معدوم.
ومن حيث النتيجة صادقت أكثرية الهيئة الحاكمة محكمة الجنايات في ما اتجهت إليه وثبتته.
هذا الاتجاه الذي سلكته أكثرية
المحكمة خالفته الأستاذة القديرة المستشار "هانيا البابا" وفنّدت مخالفتها هذه بشرح فقهي مسهب ومعتبر ووجيه مفاده:
أُسست الدعوى ابتداءً على سببين قانونيين مختلفين (اعتراض الغير وإعادة المحاكمة) ولكل منهما دعوى مستقلة تحميه، والسبب في الدعوى هو الأساس القانوني الذي بني عليه الحق، أو ما تولد أو نتج عنه هذا الحق، ولا يقصد بالسبب الأدلة أو الوسائل التي تؤيد سبب الدعوى أو تثبته.
وحيث أن السببين اللذين أسس المدعي دعواه عليهما، ولئن كان كلاهما من طرق الطعن، ولكن لكل، دعوى شرائطها وأركانها وخصائصها ومهلها القانونية، فضلاً عن اختلاف أطراف كل من الدعويين. الأمر الذي يستدعي رفض الدعوى شكلاً.
كما تطرقت الأستاذة "البابا" للطلب العارض الذي تقدم به الأستاذ "قبلان" بإعلان الانعدام، معتبرة إياه غير أصولي بحسبان أنه يتضمن تغييراً لموضوع الدعوى الأصلية من الاعتراض وإعادة المحاكمة، وأن دعوى الانعدام تعتبر دعوى مبتدأة ولا تصلح لأن تكون موضوع طلب عارض، مما يستوجب رفض الطلب العارض شكلاً أيضاً،
في الواقع إن النواحي القانونية التي أثارتها الأستاذة "البابا" وجيه فعلاً، وهي لم تجانب القانون فيما اتجهت إليه من انفصال سبب وشروط وأطراف كل من دعوى اعتراض الغير وإعادة المحاكمة عن بعضهما، مما يحتم فصلهما عن بعض، وقد كانت محقة فعلاً باعتبار (الطلب العارض) يتضمن تغييراً في موضوع الدعوى لا يسمح به القانون،
ولكني شخصياً أرى في حالة هذه الدعوى بالذات، وليس بالمطلق، أنه لا مانع من الجمع بين دعويي اعتراض الغير وإعادة المحاكمة، بسبب وحدة الموضوع (ملكية المنزل) وبسبب (الترابط العضوي) بين الحكمين موضوع الدعوى وأطرافهما أيضاً، ذلك أن وشائج هذا الترابط العضوي، تحتوي وتستوعب الانفصال النظري البحت في سبب وأطراف كلاً من الدعويين المذكورتين،
ومن جهة أخرى بالنسبة للطلب العارض، فإن طبيعة الدفع بـ (حالة الانعدام) بالذات دوناً عن غيرها، تسمح بقبوله شكلاً وموضوعاً في الدعوى برأيي، حتى لو تضمن تغييراً بموضوعها، على اعتبار أن "العدم" يعني عدم الوجود، وهو حالة تطغى على حالة الغش الثابت بالتزوير وانتحال الشخصية مناط دعوى إعادة المحاكمة، ويشفع لنا في ذلك ما استقر عليه الاجتهاد من أنه يمكن لأي كان بما في ذلك رئيس التنفيذ (محدود السلطات) التصدي للانعدام بطريق الدفع دون الحاجة لإقامة دعوى مبتدأة.
وقد ردت أكثرية هيئة المحكمة (الأستاذتان أمينة ورولا) على مخالفة الأستاذة "البابا" بما سبق أن بينته من أن الانعدام يمكن لأي كان إثارته حتى للمحكمة نفسها في أية مرحلة كانت عليها الدعوى، واعتبرت الأكثرية أن الطلب العارض بإعلان انعدام الأحكام موضوع الدعوى لا يعتبر تغييراً بموضوع الدعوى الذي يتنصب أساساً على طلب إبطالهما، وبالتالي يعتبر تغييراً في الأساس القانوني الذي بنيت عليه الدعوى، مع بقاء موضوع الدعوى على حاله.
وبما أن الانعدام أعلى درجات البطلان فتغيير الموضوع هو الذي يتوجب وجود ظروف طرأت بعد رفع الدعوى، أما التغيير في الأساس القانوني الذي بنيت عليه الدعوى وسبب الدعوى لا يتطلب ذلك.
وفوق ذلك وبما أن الدفع بالانعدام يعتبر من متعلقات النظام العام، فللمحكمة أن تقضي به من تلقاء ذاتها حتى لو لم يتمسك به صاحب المصلحة.
وبناء على ما سلف صدر قرار محكمة الاستئناف بالأكثرية بإعلان انعدام الحكمين موضوع الدعوى، وإلغاء كافة آثارهما ومفاعيلهما، وثبتت ما حكمت به محكمة الجنايات لجهة استلام المالك الأصلي للشقة، واستلام الشارية للمبالغ التي تمكن التحقيق من السيطرة عليها.
تنويه:
حينما اعتزمت الكتابة عن هذا الموضوع اعتقدت أني سأنشره على قسمين ليأخذ حقه، ولكني أخطأت التقدير وتبين أنه يحتاج ثلاثة أقسام.
لذلك أقول أن للبحث صلة وغداً سيكون الحديث إن شاء الله عن اتجاه محكمة النقض بالقضية.
----------------------------------